فصل: تفسير الآيات (53- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (53- 56):

قوله تعالى: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما محّض لهم النصح على غاية البيان، ما كان جوابهم إلا أن: {قالوا} أي عاد بعد أن أظهر لهم هود عليه السلام من المعجزات ما مثله آمن عليه البشر: {يا هود} نادوه باسمه غلظة وجفاء: {ما جئتنا ببينة} فأوضحوا لكل ذي لب أنهم مكابرون لقويم العقل وصريح النقل، فهم مفترون كما كان العرب يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أتاهم من الآيات على يده ما يفوت الحصر: {لولا أنزل عليه آية من ربه}، {وما نحن} وأغرقوا في النفي فقالوا: {بتاركي آلهتنا} مجاوزين لها أو صادرين: {عن قولك} وتركهم للعطف بالفاء- المؤذنة بأن الأول سبب الثاني أي الواو في قولهم: {وما نحن لك} أي خاصة، وأغرقوا في التفي فقالوا: {بمؤمنين}- دليل على أنهم تركوا إتباعه عنادًا، لا أنهم يعتقدون أنه لم يأت ببينة؛ وإلى ذلك يرشد أيضًا تعبيرهم بالاسمية التي تدل على الثبات فإذا نفي لم ينتف الأصل؛ والبينة: الحجة الواضحة في الفصل بين الحق والباطل، والبيان: فصل المعنى من غيره حتى يظهر للنفس محررًا مما سواه، والحامل على ترك البينة بعد ظهورها صد الشبهة عنها أو تقليد الرؤساء في دفعها واتهام موردها أو اعتقاد أصول فاسدة تدعو إلى جحدها أو العناد للحسد ونحوه، والجامع له كله وجود الشبهة.
ولما قالوا هذا الكلام البين الفساد من غير تعرض لنقض ما قال لهم بنوع شبهة، كان كأنه قيل لهم: هذا الذي قلته لكم وهو لا أبين منه ولا أعدل، افرضوا أنه ما ظهر لكم صحته فما تقولون إنه حملني عليه مع أن فيه منابذتكم وأنتم أولاد عمي وأعز الناس عليّ؟ فقالوا: {إن نقول إلا اعتراك} أي أصابك وغشيك غشيانًا التصق بك التصاق العروة بما هي فيه مع التعمد والقوة: {بعض آلهتنا بسوء} من نحو الجنون والخبال فذاك الحامل لك على النهي عن عبادتها.
ولما كان الطبع البشري قاضيًا بأن الإنسان يخشى ممن مسه بسوء وهو يتوهم أنه قادر على ضرره فلا يواجهه بما يكره، وكان قولهم محركًا للسامع إلى الاستعلام عن حوابه لهم، استأنف سبحانه الإخبار عنه بقوله: {قال} نافيًا لما قالوا مبينًا أن آلهتهم لا شيء ضامًا لهم معها، وأكد لأنهم بحيث لا يظنون أن أحدًا لا يقول ما قاله: {إني أشهد الله} أي الملك الأعظم ليقوم عذري عنده وعدل أدبًا مع الله عن أن يقول: وأشهدكم- لئلا يتوهم تسوية- إلى صيغة الأمر تهاونًا بهم فقال: {واشهدوا} أي أنتم لتقويم الحجة عليكم لأيكم ويبين عجزكم ويعرف كل أحد أنكم بحيث يتهاون بكم وبدينكم ولا يبالي بكم ولا به: {أني بريء مما تشركون} وبين سفولها بقوله: {من دونه} كائنًا ما كان ومن كان، فكيف إذا لم يكن إلا جمادًا: {فكيدوني} حال كونكم: {جميعًا} أي فرادى إن شئتم أو مجتمعين أنتم وآلهتكم.
ولما كانت المعاجلة في الحرب أهول، وكان شأنها أصعب وأخطر، بين عظمها بأداة التراخي فقال: {ثم لا تنظرون} والكيد: طلب الغيظ بالسر في مكر، وهذه الآية من أعلام النبوة الواضحة لهود عليه السلام، فكأنه قيل: هب أن آلهتنا لا شيء، فما حملك على الاجتراء على مخالفتنا نحن وأنت كثرتنا وقوتنا وأنت لا تزيد على أن تكون واحدًا منا فقال: {إني} أي جسرت على ذلك لأني: {توكلت} معتمدًا: {على الله} الملك المرهوب عقابه الذي لا ملك سواه ولا رب غيره؛ وبين إحاطة ملكه بقوله: {ربي وربكم} أي الذي أوجدنا ودبر أمورنا قبل أن يخلقنا فعلم ما يعمل كل منا في حق الآخرة لأنه: {ما من دابة} أي صغرت أو كبرت: {إلا هو آخذ} أي أخذ قهر وغلبة: {بناصيتها} أي قادر عليها، وقد صار الأخذ بالناصية عرفًا في القدرة، لأن الكل جارون مع مراده لا مع مرادهم بل لا ينفك أحد عن كراهة لبعض ما هو فيه فدل ذلك قطعًا على أنه بغير مراده وإنما هو بمراد قاهر قهره على ذلك وهو الملك الأعلى سبحانه؛ والناصية: شعر مقدم الرأس، ومن أخذ بناصيته فقد انقاد لأخذه لا يستطيع ميلًا: {إن} أي لأن: {ربي} أي المحسن إليّ بما أقامني فيه: {على صراط} أي طريق واسع بين: {مستقيم} ظاهر أمره لكل أحد لا لبس فيه أصلًا ولا خلل ولا اضطراب ولا اعوجاج بوجه، فلذلك كان كل من في الكون يتألهه ويدعو ويخافه ويرجوه وإن اتخذ بعضهم من دونه شركاء، وأما ما يعبد من دونه فلا يعظمه إلا عابده، وأما غير عابده فإنه لا يقيم له وزنًا؛ فصح بهذا غالب على كل شيء غلبة يعلمها كل موجود من غير خفاء أصلًا، فهو مرجو مرهوب بإجماع العقلاء بخلاف معبوداتكم، والحاصل أنه يلزم الصراط المستقيم الظهور، فيلزم عدم الاختلاف لانتفاء اللبس، فمن كان عليه كان عليّ القدر شهير الأمر، بصيرًا بما يريد، مع الثبات والتمكن، مرهوب العاقبة، مقصودًا بالاتباع والمحبة، من لم يقبل إليه ضل، ومن أعرض عنه أخذ لكثرة أعوانه وعز سلطانه، فظهرت قدرته على عصمة من يتوكل عليه وعجز معبوداتهم معهم، لأن نواصي الكل بيده وهو ربها وربهم ورب كل شيء، فقد انطبق ختام الآية على قولهم: {ما جئتنا ببينة} ردًا له لأن من كان على صراط مستقيم لم يكن شيء أبين من أمره، وعلى جوابه في توكله وما في حيزه أتم انطباق؛ والناصية: مقدم الشعر من الرأس، وأصلها الاتصال من قولهم: مفازة تناصي مفازة- إذا كانت متصلة بها. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} اعلم أنه تعالى لما حكى عن هود عليه السلام ما ذكره للقوم، حكى أيضًا ما ذكره القوم له وهو أشياء: أولها: قولهم: {مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ} أي بحجة، والبينة سميت بينة لأنها تبين الحق من الباطل، ومن المعلوم أنه عليه السلام كان قد أظهر المعجزات إلا أن القوم بجهلهم أنكروها، وزعموا أنه ما جاء بشيء من المعجزات.
وثانيها: قولهم: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} وهذا أيضًا ركيك، لأنهم كانوا يعترفون بأن النافع والضار هو الله تعالى وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر، ومتى كان الأمر كذلك فقد ظهر في بديهة العقل أنه لا تجوز عبادتها وتركهم آلهتهم لا يكون عن مجرد قوله بل عن حكم نظر العقل وبديهة النفس.
وثالثها: قوله: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} وهذا يدل على الإصرار والتقليد والجحود.
ورابعها: قولهم: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء} يقال: اعتراه كذا إذا غشيه وأصابه.
والمعنى: أنك شتمت آلهتنا فجعلتك مجنونًا وأفسدت عقلك، ثم إنه تعالى ذكر أنهم لما قالوا ذلك قال هود عليه السلام: {إِنِى أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنّى بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ} وهو ظاهر.
ثم قال: {فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} وهذا نظير ما قاله نوح عليه السلام لقومه: {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ} [يونس: 71] إلى قوله: {وَلاَ تُنظِرُونَ} [يونس: 71].
واعلم أن هذا معجزة قاهرة، وذلك أن الرجل الواحد إذا أقبل على القوم العظيم وقال لهم: بالغوا في عداوتي وفي موجبات إيذائي ولا تؤجلون؛ فإنه لا يقول هذا إلا إذا كان واثقًا من عند الله تعالى بأنه يحفظه ويصونه عن كمد الأعداء.
ثم قال: {مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} قال الأزهري: الناصية عند العرب منبت الشعر في مقدم الرأس ويسمى الشعر النابت هناك ناصية باسم منبته.
واعلم أن العرب إذا وصفوا إنسانًا بالذلة والخضوع قالوا: ما ناصية فلان إلا بيد فلان، أي أنه مطيع له، لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره فخوطبوا في القرآن بما يعرفون فقوله: {مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أي ما من حيوان إلا وهو تحت قهره وقدرته، ومنقاد لقضائه وقدره.
ثم قال: {إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ} وفيه وجوه: الأول: أنه تعالى لما قال: {مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أشعر ذلك بقدرة عالية وقهر عظيم فأتبعه بقوله: {إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ} أي أنه وإن كان قادرًا عليهم لكنه لا يظلمهم ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب، قالت المعتزلة قوله: {مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} يدل على التوحيد وقوله: {إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ} يدل على العدل، فثبت أن الدين إنما يتم بالتوحيد والعدل.
والثاني: أنه تعالى لما ذكر أن سلطانه قهر جميع الخلق أتبعه بقوله: {إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ} يعني أنه لا يخفى عليه مستتر، ولا يفوته هارب، فذكر الصراط المستقيم وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه، كما قال: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14] الثالث: أن يكون المراد: {إِنَّ رَبّى} يدل على الصراط المستقيم، أي يحث، أو يحملكم بالدعاء إليه. اهـ.

.قال ابن عطية:

{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} المعنى: {ما جئتنا} بآية تضطرنا إلى الإيمان بك ونفوا أن تكون معجزاته آية بحسب ظنهم وعماهم عن الحق، كما جعلت قريش القرآن سحرًا وشعرًا ونحو هذا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر». الحديث، وهذا يقضي بأن هودًا وغيره من الرسل لهم معجزات وإن لم يعين لنا بعضها.
وقوله: {عن قولك} أي لا يكون قولك سبب تركنا إذ هو مجرد عن آية، وقولهم: {إن نقول} الآية، معناه ما نقول إلا أن بعض الآلهة لما سببتها وضللت عبدتها أصابك بجنون، يقال: عر يعر واعترى يعتري إذا ألم بالشيء، فحينئذ جاهرهم هود عليه السلام بالتبري من أوثانهم وحضهم على كيده هم وأصنامهم، ويذكر أن هذه كانت له معجزة وذلك أنه حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكفرهم فلم يقدروا على نيله بسوء.
و: {تنظرون} معناه تؤخروني أي عاجلوني بما قدرتم عليه، وقوله تعالى: {إني توكلت على الله} الآية، المعنى: أن توكلي على الله الذي هو ربي وربكم مع ضعفي وانفرادي وقوتكم وكثرتكم يمنعني منكم ويحجز بيني وبينكم؛ ثم وصف قدرة الله تعالى وعظم ملكه بقوله: {ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها} وعبر عن ذلك ب الناصية، إذ هي في العرف حيث يقبض القادر المالك ممن يقدر عليه، كما يقاد الأسير والفرس ونحوه حتى صار الأخذ بالناصية عرفًا في القدرة على الحيوان، وكانت العرب تجز ناصية الأسير الممنون عليه لتكون تلك علامة أنه قدر عليه وقبض على ناصيته. والدابة: جميع الحيوان، وخص بالذكر إذ هو صنف المخاطبين والمتكلم.
وقوله: {إن ربي على صراط مستقيم} يريد أن أفعال الله عز وجل هي في غاية الإحكام، وقوله الصدق، ووعده الحق؛ فجاءت الاستقامة في كل ما ينضاف إليه عز وجل. فعبر عن ذلك بقوله: {إن ربي على صراط مستقيم} على تقدير مضاف. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالُواْ يا هود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} أي حجة واضحة: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} إصرارًا منهم على الكفر.
قوله تعالى: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك} أي أصابك.
{بَعْضُ آلِهَتِنَا} أي أصنامنا.
{بسوء} أي بجنون لسبِّك إياها، عن ابن عباس وغيره.
يقال: عراه الأمر واعتراه إذا أَلَمَّ به.
ومنه: {وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} [الحج: 36].
{قَالَ إني أُشْهِدُ الله} أي على نفسي.
{واشهدوا} أي وأشهدكم؛ لا أنهم كانوا أهل شهادة، ولكنه نهاية للتقرير؛ أي لتعرفوا: {أَنِّي بريء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} أي من عبادة الأصنام التي تعبدونها.
{فَكِيدُونِي جَمِيعًا} أي أنتم وأوثانكم في عداوتي وضري.
{ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} أي لا تؤخرون.
وهذا القول مع كثرة الأعداء يدلّ على كمال الثقة بنصر الله تعالى.
وهو من أعلام النبوّة، أن يكون الرسول وحده يقول لقومه: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا}.
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش. وقال نوح صلى الله عليه وسلم: {فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُم} [يونس: 71] الآية. قوله تعالى: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي رضيت بحكمه، ووثقت بنصره.
{مَّا مِن دَآبَّةٍ} أي نفس تدب على الأرض؛ وهو في موضع رفع بالابتداء.
{إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أي يصرفها كيف يشاء، ويمنعها مما يشاء؛ أي فلا تصلون إلى ضري.
وكل ما فيه رُوح يقال له دابّ ودابّة؛ والهاء للمبالغة.
وقال الفراء: مالكها، والقادر عليها.
وقال القتبيّ: قاهرها؛ لأن من أخذتَ بناصيته فقد قهرتَه.
وقال الضحّاك: يحييها ثم يميتها؛ والمعنى متقارب.
والناصية قُصاص الشّعر في مقدم الرأس.
ونَصوتُ الرجل أَنصوه نَصْوًا أي مددت ناصيته.
قال ابن جريج: إنما خص الناصية؛ لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانًا بالذلّة والخضوع؛ فيقولون: ما ناصية فلان إلا بيد فلان؛ أي إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء.
وكانوا إذا أسروا أسيرًا وأرادوا إطلاقه والمنّ عليه جزوا ناصيته ليعرفوا بذلك فخرًا عليه؛ فخاطبهم بما يعرفونه في كلامهم.
وقال الترمذيّ الحكيم في نوادر الأصول قوله تعالى: {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} وجهه عندنا أن الله تعالى قدّر مقادير أعمال العباد، ثم نظر إليها، ثم خلق خلقه، وقد نفذ بصره في جميع ما هم فيه عاملون من قبل أن يخلقهم، فلما خلقهم وضع نور تلك النظرة في نواصيهم فذلك النور آخذ بنواصيهم، يجريهم إلى أعمالهم المقدّرة عليهم يوم المقادير.
وخلق الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قّدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة».
ولهذا قويت الرسل وصاروا من أولي العزم لأنهم لاحظوا نور النواصي، وأيقنوا أن جميع خلقه منقادون بتلك الأنوار إلى ما نفذ بصره فيهم من الأعمال، فأوفرهم حظًا من الملاحظة أقواهم في العزم، ولذلك ما قوِي هود النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ}.
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}.
وإنما سمِّيت ناصية لأن الأعمال قد نصّت وبرزت من غيب الغيب فصارت منصوصة في المقادير، قد نفذ بصر الخالق في جميع حركات الخلق بقدرة، ثم وضعت حركات كل من دبّ على الأرض حيًا في جبهته بين عينيه، فسُمّي ذلك الموضع منه ناصية؛ لأنها تنص حركات العباد بما قدّر؛ فالناصية مأخوذة بمنصوص الحركات التي نظر الله تعالى إليها قبل أن يخلقها.
ووصف ناصية أبي جهل فقال: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 16] يخبر أن النواصي فيها كاذبة خاطئة؛ فعلى سبيل ما تأوّلوه يستحيل أن تكون الناصية منسوبة إلى الكذب والخطأ. (والله أعلم).
{إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} قال النحاس: الصّراط في اللغة المنهاج الواضح؛ والمعنى أن الله جلّ ثناؤه وإن كان يقدر على كل شيء فإنه لا يأخذهم إلا بالحق. وقيل: معناه لا خَلل في تدبيره، ولا تفاوت في خلقه سبحانه. اهـ.